INSIGHTS
الوساطة – الفرصة الضائعة
Nov 25, 2020

كتابة:
سلطان مبارك العبدالله ، الشريك المدير
* قدمت هذه الورقة بتاريخ 15 سبتمبر 2020 في إطار احتفالية مركز قطر الدولي للتوفيق والتحكيم بمناسبة دخول اتفاقية سنغافورة حيز التنفيذ.
أستأذن الزملاء الكرام والمنظمين في الخروج من إطار الاحتفالية بدخول اتفاقية سنغافورة حيز التنفيذ إلى فضاء أرحب ألا وهو الوساطة بشكل عام. وقد عنونت ورقتي بعنوان “الوساطة – الفرصة الضائعة” إذ أرى أن هذا العنوان يلخص وضع الوساطة في عالمنا العربي!
وأبدأ بالقول بأنه مع بدايات الألفية الثالثة ظهرت كتابات كثيفة تبشر بانتشار ثقافتين قانونيتين هامتين، ألا وهما: ثقافة التحكيم وثقافة الوساطة.
وقد صدقت تلك التوقعات والنبوءات فيما يتعلق بالتحكيم الذي أصبح له أتباع ومريدين، إن صح التعبير، وعدد كبير من المتخصصين فيه. إلا أنه وبنفس القدر فقد فشلت تلك التوقعات فيما يتعلق بالوساطة! فماذا حدث؟ ولماذا لم تنجح الوساطة حيث نجح التحكيم؟
الحقيقة أن الوساطة والتحكيم ينتميان إلى عائلة واحدة اسمها عائلة: “الوسائل البديلة لفض المنازعات” أو باللغة الإنجليزية “Alternative dispute resolution methods” والتي تعرف اختصاراً بمصطلح “ADR”. وما أدى إلى انتشار هذه الوسائل البديلة لفض المنازعات، وهناك عدد منها غير التحكيم والوساطة بالطبع، هو اكتظاظ النظام القضائي في كل دول العالم بآلاف القضايا وهو ما أدى إلى التأثير على نوعية الأحكام التي يصدرها الجهاز القضائي مع تأخير يمتد أحياناً لسنوات طويلة قبل أن يتم الفصل في القضايا المعروضة، وهو الأمر الذي كان يرهق المتقاضين بشكل كبير ويؤدي إلى خسائر مالية جسيمة في المحصلة النهائية بحيث لا تكفي التعويضات التي تتضمنها الأحكام أحياناً من تغطية الخسائر الحقيقية.
والوساطة مثلها مثل التحكيم تتميز بأمور أهمها السرعة والمرونة والسرية. فمن ناحية السرعة تتميز الوساطة عن التحكيم بأنها في العادة لا تتجاوز عدة أسابيع أو بضعة أشهر في بعض الأحيان، في حين أن التحكيم قد يمتد إلى ما بين ستة أشهر وعدة سنوات في القضايا بالغة التعقيد وعالية القيمة أو تلك التي يلجأ فيها أحد الطرفين أو كلاهما إلى إجراءات لتعطيل سير الدعوى – أو ما يعرف بـ guerrilla tactics.
أما من ناحية المرونة، فيتشابه التحكيم والوساطة في خضوعهما لإرادة الأطراف الذين يحددون آلية السير في العملية التحكيمية أو عملية الوساطة وفق ما يتراءى لهم، أو الاستعانة بقواعد الوساطة أو قواعد التحكيم المعتمدة بأحد المراكز المتخصصة مثل مركز قطر الدولي للتوفيق والتحكيم، مع مراعاة طبعاً ما ينص عليه قانون التحكيم، إن وجد، بالنسبة للقضايا التحكيمية.
وكذلك الحال بالنسبة للسرية، فإن التحكيم والوساطة يتشابهان في ذلك، مع العلم أن المعتاد أن يعرض الحكم التحكيمي على القضاء في حالة الطعن عليه بالبطلان أو لأجل تنفيذه، في حين أن التسوية التي تسفر عنها الوساطة يمكن تنفذ بعيداً عن أعين القضاء.
إلا أن التحكيم والوساطة يتمايزان في أمرين هامين، وهما التكاليف والالتزام بالنتيجة. ففي حين أن أحد أسباب انتشار التحكيم في بداياته هو ما يقال عن تكلفته المحدودة مقارنة بالقضاء، فإن مثل هذا القول لم يعد مطروحاً الآن وأصبح أثراً بعد عين. فالتحكيم أصبح مكلفاً جداً وتفوق تكلفته، على الأقل في منطقتنا العربية، تكاليف التقاضي حتى ولو استمرت الدعوى القضائية عدة سنوات إضافية. أما الوساطة، فإن تكلفتها لا تقارن مطلقاً لا بتكلفة التحكيم ولا تكلفة التقاضي. وهذه نقطة تحسب لصالح الوساطة.
أما عن عنصر الإلزام بالحكم أو بالنتيجة النهائية، فإن التحكيم يسجل هنا نقطة تحسب لصالحه. ذلك أنه ما لم يتفق الأطراف على خلاف ذلك، فإن نتيجة الوساطة لا تكون ملزمة وتتضمن اتفاقية الوساطة في العادة بنوداً تمنع عرض ما يتوصل إليه الوسيط أو التسوية إن تم التوصل إليها على القضاء أو التحكيم في حالة إحالة النزاع إلى أيٍ منهما. وهذه هي نقطة ضعف الوساطة الكبرى. أما حكم التحكيم، فإنه يكون قابلاً للتنفيذ في البلد الذي صدر فيه بموجب القانون، بل ويمكن تنفيذه في أكثر من 160 دولة حول العالم بموجب اتفاقية نيويورك لعام 1958 لتنفيذ أحكام المحكمين. ولعل هذه الثغرة، ثغرة الإلزام والإنفاذ، هي بالضبط ما ترمي إليه اتفاقية سنغافورة بشأن الوساطة، والتي وقعت عليها حتى الآن 53 دولة.
والوساطة تتميز عن التحكيم بعدة أمور:
فأولاً: من ناحية الهدف من اللجوء للوساطة، فإنه على خلاف التحكيم أو القضاء، يلجأ الأطراف إلى الوساطة في العادة للحفاظ على علاقات العمل بينهم، وكثيراً ما يتم اللجوء للوساطة أثناء علاقة العمل بين الطرفين وذلك بهدف استمراريتها. أما التحكيم أو التقاضي، فيلجأ لهما في العادة بعد انتهاء علاقة العمل ويؤديان في كثير من الأحيان إلى قطع علاقات العمل بالكلية بين الطرفين.
ثانياً: هناك فرق شاسع بين شخصية الوسيط وشخصية المحكم. ففي حين أن المحكم يجب أن يكون شخصاً محايداً بالكلية ولا تربطه أي مصالح مع أطراف الخلاف، وعليه أن يقدم إقرارات كتابية بذلك وأن يستمر في أخذ الحيطة والحذر في عدم خدش هذه الحيدة والاستقلالية، كثيراً ما نجد في الوساطة العرفية غير المنظمة أن الوسيط يكون على علاقة بطرفي الخلاف وهو يستخدم هذه العلاقة الحسنة مع الطرفين لأداء مهمته في التوسط بينهما، مع مراعاة طبعاً أن قواعد الوساطة الموجودة في بعض الدول تتطلب أن يكون الوسيط يتمتع بذات الحيدة والاستقلالية التي يتمتع بها المحكم وأن يقدم اقرارات كتابية بذلك.
ثالثاً: بالنسبة لدور الوسيط، فإنه يختلف اختلافاً جذرياً عن دور المحكم. فدور الوسيط هو أن يحاول تقريب وجهات النظر وتجسير الهوة بين الأطراف بطريقة ودية دون أن يكون له أن يوجه أوامر أو تعليمات لهم أو أن يفرض عليهم شيئاً. أما المحكم فدوره أكثر حسماً، فهو يدير العملية التحكيمية وهو من يقع على عاتقه اتخاذ القرارات المتعلقة بسير الدعوى التحكيمية وصولاً إلى الحكم فيها والفصل بشكل نهائي في الأمور المتنازع عليها.
رابعاً: ما يتوصل إليه الوسيط، سواء أكان رأياً (finding) أو تسوية، لا يكون له طابع إلزامي في الغالب، ما لم يتفق الأطراف على خلاف ذلك. والأطراف مخيرون في قبول رأي الوسيط أو تنفيذ التسوية التي يتم الاتفاق عليها. أما ما يتوصل إليه المحكم فيأخذ طابع الحكم الذي يفصل في الخصومة المعروضة عليه، وهذا الحكم يصدر أحياناً باسم السلطة العليا في الدولة، كما هو الحال في قطر. وما لم يكن هناك أخطاء أو مخالفات جسيمة شابت العملية التحكيمية تؤدي إلى إبطال حكم التحكيم، فإن الحكم يكون نافذاً وتقوم السلطات القضائية بتنفيذه بالضبط كما تقوم بتنفيذ الأحكام القضائية.
خامساً: من ضمن أهم الفوارق تكلفة الوساطة مقارنة بتكلفة التحكيم. من اشترك بالتحكيم وخصوصاً التحكيم الدولي يعلم أن تكلفة التحكيم قد تصل إلى عدة ملايين، وأنه غالباً ما يتم إلزام الطرف الخاسر بهذه التكلفة في حكم التحكيم. أما تكلفة الوساطة فإنها في الغالب لا تتجاوز جزءاً بسيطاً جداً من تكلفة التحكيم أو تكلفة التقاضي ويتحمل كل طرف التكاليف التي تكبدها. فمثلاً حسب قواعد التوفيق لمركز قطر الدولي للتوفيق والتحكيم تساوي أتعاب الوسيط ثلث أتعاب المحكم.
سادساً: من ضمن أهم الفوارق أيضاً أن عملية الوساطة أو التوفيق لا تتم إلا بمشاركة الطرفين فيها. فإذا امتنع أحد الطرفين عن الاشتراك أو رفض صراحة الاشتراك في إجراءات الوساطة، فإن الوساطة تتوقف ولا يمكن المضي فيها قدماً. هذا على عكس التحكيم الذي يتم السير في إجراءاته حتى ولو امتنع أحد الطرفين بعد إعلانه إعلاناً صحيحاً عن المشاركة أو رفض حضور الجلسات.
سابعاً: أيضاً هناك فروق أخرى أقل أهمية تتعلق بالمكان الذي تتم فيه الوساطة والتي تأخذ طابع غير رسمي وقد تتم عن طريق التنقل بين مكاتب الأطراف دون إلزامهم بأن يتواجدوا في مكان واحد في أوقات معينة. وأيضاً هناك فروق تتعلق بالحضور حيث يكون أغلبية الحضور من الإداريين والفنيين في الوساطة في حين أن أغلب حضور التحكيم يكون من المحامين والقانونيين. وأيضاً من ضمن الفوارق أن عدد الموفقين يمكن أن يكون فردياً أو زوجياً وهذا مستحيل في التحكيم حيث أن العدد يجب أن يكون فردياً وإلا كان باطلاً. أيضاً هناك التواصل مع الأطراف الذي يمكن أن يكون في الوساطة معهم مجتمعين أو مع كل طرف على انفراد وعدم الإفصاح عن المعلومات السرية والحساسة التي يتلقاها من أحد الأطراف، أما في التحكيم فلا بد من تحقيق مبدأ المواجهة. وفي العادة لا يمنع الشروع في الوساطة من مباشرة إجراءات قضائية أو تحكيمية حول نفس النزاع، أما في التحكيم فإن الاتفاق على التحكيم يمتنع معه اللجوء للقضاء.
وهنا أعود إلى عنوان هذه الورقة، ما الذي أقصده من أن الوساطة فرصة ضائعة؟
في الحقيقة للإجابة على هذا السؤال لا بد من استعراض بعض الاحصائيات التي تصدرها المراكز التحكيمية والقضاء.
مثلاً، مركز قطر الدولي للتوفيق والتحكيم، وأذكر هنا لأن لديه قواعد لتنظيم عملية التوفيق بين الخصوم، هناك تصريح منسوب لسعادة الدكتور الشيخ ثاني بن علي منشور في 25 فبراير 2019 يشير إلى أن المركز فصل تحكيمياً في عدد عشر قضايا بقيمة 466 مليون ريال واستقبل 22 قضية تحكيمية جديدة في عام 2018. ولم أطلع على بيان منشور مشابه عن قضايا المركز في عام 2019. ولعل سعادته يتفضل بتحديث معلوماتنا عن عام 2019. على كل حال، لا ذكر في هذا التصريح عن قضايا التوفيق لأنها تكاد تكون معدومة.
أيضاً احصائيات غرفة التجارة الدولية (ICC)، وهو أكبر المراكز العالمية للتحكيم، المنشورة في بداية هذا الصيف أظهرت أن عدد القضايا التحكيمية المتداولة في عام 2019 بلغت 1694 قضية تحكيمية منها 869 قضية جديدة تم تسجيلها في عام 2019 بالمركز. من هذه القضايا هناك 33 قضية فيها طرف قطري، 56 قضية فيها طرف سعودي، و78 قضية فيها طرف إماراتي، 10 قضايا فيها أطراف مصرية، و7 قضايا فيها طرف مغربي، و10 قضايا فيها أطراف عربية أخرى. وهذا يعني أن هناك نحواً من 200 قضية تحكيمية منظورة أمام المركز في عام 2019 كان أحد طرفيها أو كلاهما عربياً.
وبديهي أن أرقام الدعاوى أمام المحاكم أكثر بكثير مما سبق وتبلغ عشرات الآلاف. فإحصائيات المحاكم في قطر في عام 2019 تظهر أن عدد القضايا المنظورة أمام المحاكم الكلية فقط يبلغ أكثر من 10.000 قضية منها أكثر من 5.500 قضية مرحلة من أعوام سابقة. كما نجد أن عدد القضايا الجديدة المسجلة في عام 2018 قد تجاوز أكثر من 11.000 قضية.
وتبحث في كل هذه الأرقام عن الوساطة وعن التوفيق ولا تجد لهما أي ذكر، رغم أنهما قد يكونا الخيار الأسرع والأرخص والأكثر سرية والأكثر ملائمة للحفاظ على علاقات العمل بين أطراف النزاع.
والوساطة كما هو معروف كانت تاريخياً الوسيلة التقليدية الغير رسمية لتسوية النزاعات التجارية. ونادراً ما كانت الخلافات التجارية تجد سبيلها للمحاكم. الأمر الذي أدى إلى ظهور محاولات في بعض الدول لتقنين عملية الوساطة.
مثلاً في قطر، تم إنشاء مركز قطر الدولي للتوفيق والتحكيم في عام 2006 واعتمد مجموعة من قواعد التوفيق في مايو 2012، وهي قواعد مأخوذة عن قواعد التوفيق التابعة للجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي. أيضاً، محكمة قطر الدولية ومركز تسوية المنازعات (“QICDRC”) تقدم خدمات الوساطة بالشراكة مع مركز تسوية المنازعات الفعالة (“CEDR”) منذ عام 2010.
أيضاً، في الإمارات العربية صدر القانون الاتحادي رقم 26 لسنة 1999 بإنشاء لجان التوفيق والمصالحة في المحاكم الاتحادية لتسهيل تسوية المنازعات المدنية والتجارية والعمالية. وأي تسوية يتم التوصل إليها عن طريق هذه اللجان، تأخذ طابع السند التنفيذي وتصبح قابلة للتنفيذ.
في الأردن، صدر قانون الوساطة في حل النزاعات المدنية في عام 2006. وقد مهد ذلك الطريق لنظام مستقل للوساطة من خلال المحاكم. وفترة الوساطة تخضع لقيد زمني مدته ثلاثة أشهر، وأي تسوية يتم التوصل إليها تكون نهائية.
في السعودية أيضاً، أصدر المركز السعودي للتحكيم التجاري، الذي تم إنشاؤه في عام 2016، قواعد للوساطة.
إذن فما السبب في العزوف عن الوساطة كآلية سريعة وفعالة لفض المنازعات؟ أعتقد أن ذلك يمكن أن يعزى إلى عدد من الأسباب:
أولاً: عدم وجود إلمام كافي بآلية الوساطة وكيفية عملها وميزاتها مقارنة بالتقاضي وبالتحكيم.
ثانياً: الافتقار إلى آلية قانونية واضحة ومحددة لتنفيذ ما تسفر عنه الوساطة. ففي حين أن هناك وضوح تشريعي بالنسبة لتنفيذ الأحكام القضائية والتحكيمية، فإن هناك فجوة تشريعية حول كيفية تنفيذ التسوية الناتجة عن الوساطة. وهنا تكمن قوة وأهمية اتفاقية سنغافورة.
ثالثاً: انتشار ثقافة المواجهة بين أصحاب الأعمال وإن ما لا يمكن إدراكه من خلال التفاوض، وهو بالمناسبة أحد الآليات البديلة لفض المنازعات، يمكن الوصول إليه عن طريق المحاكم أو التحكيم مهما كلف الأمر.
رابعاً: ارتفاع تكاليف المشاريع والعقود التي تتعلق النزاعات بها والتي تصل إلى مئات الملايين بل والمليارات أحياناً، مع تعقيد المسائل الواقعية والقانونية المختلف حولها، مما يعني أن هناك حاجة في أحيان كثيرة إلى آلية رسمية لاستجلاء كل هذه الأمور والفصل فيها بحكم نهائي قابل للتنفيذ.
ومع كل ذلك، أعتقد أن الوساطة لها خصائص جذابة جداً مثل: المرونة والسرية وزهد التكلفة وقصر الوقت ما يجعلها جديرة بالأخذ بعين الاعتبار. إلا أن ذلك يحتاج إلى تظافر جهود عدة جهات في كل دولة لنشر ثقافة الوساطة من خلال ما يلي:
أولاً: وضع التقنين التشريعي الملائم لتنظيم أعمال الوساطة وشؤونها والاعتراف بمخرجاتها أسوة بالتحكيم.
ثانياً: قيام الجهات المختصة من القطاعين العام والخاص بتعريف أصحاب الأعمال والمشاريع بالوساطة كآلية بديلة لفض المنازعات.
ثالثاً: تأهيل الوسطاء وتثقيفهم علمياً وقانونياً على غرار التأهيل الذي يتلقاه المحكمون.
شكراً لكم على حسن الاستماع.