INSIGHTS
توزيع آثار وباء الكورونا بين العامل وصاحب العمل
January 27, 2021

كتابة:
د.
السيد عيد نايل
لم تكن هناك حاجة قبل حلول القرن التاسع عشر لتنظيم علاقات العمل بقانون خاص، فقد كانت الصناعات صغيرة وتقوم علاقات العمل على أساس نظام الطوائف المهنية وفيه يقوم صاحب المصنع أو المتجر بالعمل بمعاونة العاملين لديه، ومن ثم سادت روح المودة بين العامل وصاحب العمل وكان عدد العمال قليلاً، ومستوى الحياة متساويًا بين العامل وصاحب العمل وكانت علاقات العمل محكومة بقواعد القانون المدني والمبادئ التي تقوم عليها وأهمها مبدأ سلطان الإرادة أو العقد شريعة المتعاقدين، وهو مبدأ يفترض المساواة بين طرفي العقد.
ولكن بعد ظهور الثورة الصناعية واستخدام القوى المحركة وانتشار الآلة في الصناعة، أصبح المصنع منشأة ضخمة تضم آلاف العمال وأصبح صاحب العمل عملاقاً قوياً له من الثروة والامكانيات ما يهيئ له الإثراء على حساب العمال والتحكم في مصائرهم، ومن ثم بعدت الشٌقة بين العامل وصاحب العمل وأصبح العامل طرفا ضعيفا ولم يعد دوره في العقد سوى مجرد الإذعان لشروط صاحب العمل وأٌلغي نظام الطوائف المهنية.
بناء على ما سبق ونتيجة لما ظهر من مشكلات بين العمال وأصحاب الأعمال تدخل المشرع بصورة تدريجية بوضع قواعد تحكم علاقات العمل تستهدف حماية العمال باعتبارهم الطرف الضعيف في هذه العلاقات، وقد تضمن هذا التنظيم وضع حدا أقصى لساعات العمل وسناً أدنى للعمل، وحداً أدنى للأجر في بعض الدول. وهذه القواعد هي ما أطلق عليه قانون العمل. فقانون العمل هو مجموعة من القواعد تتضمن حدا أدنى من الحقوق للعمال لا يجوز الاتفاق على إنقاصها ولكن يجوز الاتفاق بين العامل وصاحب العمل على زيادتها. وتنطبق أحكام القانون المدني في الحالات التي لم ينظمها قانون العمل.
فقواعد قانون العمل تتعلق بالنظام العام الحمائي، وتنصب الحماية أساساً على الأجور باعتبارها مصدر إعاشة العامل.
وعقد العمل من العقود الملزمة للجانبين ويقوم على فكرة التقابل بين الأجر والعمل، فالأصل هو دوران الأجر مع العمل وجوداً وعدماً مع ضمان الاستقرار لعلاقة العمل بمعنى استمرار علاقة العمل القائمة في حالات معينة بالرغم ان العامل لم يقم بالعمل فعلاً إلا أنه كان مستعداً للقيام به، ولم يتمكن من القيام به لسبب راجع إلى صاحب العمل مع استحقاق الأجر في هذه الحالات ومن ثم فإن أجر العامل يكون مستحقاً له إذا قام بالعمل فعلاً أو وضع نفسه تحت تصرف صاحب العمل دون أن يتمكن من القيام بالعمل.
وبعد ظهور وباء الكورونا والذي أعلن عنه كجائحة عالمية توقف العمل في معظم المنشآت بتعليمات من الدولة حماية للعاملين وغيرهم، فقد أثير التساؤل هل يظل العمال بلا عمل ويحصلون على كامل حقوقهم من صاحب العمل مما قد يهدد المنشأة ذاتها وقدرتها على الاستمرار في الإنتاج وبما يؤدى في النهاية الى فقد العامل دخله أم تُنهى عقود العمل ولا يجد العامل في هذه الحالة أجراً يتعيش منه. أم يجب تطبيق أحكام نظريات الظروف الطارئة والقوة القاهرة، وفقاً لما ورد بالقانون المدني أم يجب البحث عن بدائل تحقق التوازن بين مصالح العامل ومصالح صاحب العمل.
أولاً: أثر وباء كورونا على استحقاق الأجر وفقا لأحكام القانون المدني
نصت المادة 171/2 من القانون المدني القطري على أنه: (“2- ومع ذلك إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها، وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي، وإن لم يصبح مستحيلاً صار مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة، جاز للقاضي تبعاً للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين ان يرد الالتزام المرهن الى الحد المعقول ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك.”)
وعلى ذلك فإنه إذا كان العمل بالمنشأة قد استمر بالرغم من وجود الوباء ولكن بتكلفة أكبر من قبل صاحب العمل لاتخاذه إجراءات السلامة والصحة بصورة تواجه الوباء للوقاية منه، فإن تنفيذ التزام صاحب العمل بتمكين العامل من العمل أصبح مرهقاً ومن ثم يمكن تطبيق نظرية الظروف الطارئة في هذا الفرض.
وحدد الفقه القانوني المدني المقصود تحديداً بالقوة القاهرة أو الحادث الفجائي بأنه (“الأمر الأجنبي عن المدين والدائن والغير..”)[1]
فالالتزام لا ينقضي بسبب استحالة التنفيذ إلا إذا كانت الاستحالة ترجع إلى سبب أجنبي، وأن العقد لا ينفسخ من تلقاء نفسه بحكم القانون إلا إذا انقضى الالتزام لاستحالة تنفيذه.
حيث نصت المادة 188 من القانون المدني القطري على أنه: (1- في العقود الملزمة للجانبين، إذا أصبح تنفيذ التزام أحد المتعاقدين مستحيلاً لسبب أجنبي لا يد له فيه، انقضى هذا الالتزام، وانقضت معه الالتزامات المقابلة له. وانفسخ العقد من تلقاء نفسه 2- فإن كانت الاستحالة جزئية جاز للدائن بحسب الأحوال أن يتمسك بالعقد فيما بقي من الالتزام ممكن التنفيذ، أو أن يطلب فسخ العقد”).
ونصت المادة 256 من القانون المدني القطري على أنه: (إذا لم ينفذ المدين الالتزام عيناً، أو تأخر في تنفيذه، التزم بتعويض الضرر الذي لحق الدائن، وذلك ما لم يثبت أن عدم التنفيذ أو التأخير كان لسبب أجنبي لا يد له فيه).
وعلى ذلك فإنه وفقاً لأحكام القانون المدني، ونظراً لصدور قرار من الدولة بتعليق العمل بالمنشأت الخاصة، فإن معنى ذلك أن تنفيذ التزام صاحب العمل بتقديم العمل أصبح مستحيلاً لسبب أجنبي يترتب عليه انفساخ العقد بقوة القانون. إلا أنه وفقاً لمبادئ قانون العمل لا يفسخ عقد العمل بل يقف لان الاستحالة مؤقتة وليست نهائية، ومن ثم يقف العقد فقط. فوقف عقد العمل وسيلة لاستقرار علاقات العمل وبقائها.
ثانياً: أثر وباء كورونا على استحقاق الأجر وفقاً لأحكام قانون العمل
1- وباء كورونا يوقف عقد العمل:
يذهب الفقه إلى أنه: “إذا كانت القاعدة ان العقد ينفسخ إذا طرأت حالة قوة قاهرة يستحيل معها تنفيذ التزام ناشئ عنه، فإن هذا الأثر لا يترتب على القوة القاهرة إلا إذا كانت الاستحالة الناشئة عنها استحالة نهائية، أما إذا كانت استحالة تنفيذ الالتزام مؤقتة، فلا ينفسخ العقد بل يقف تنفيذه حتى تزول الاستحالة.”[2]
وبعبارة أخرى، فإنه في هذا النوع من الوقف تمنع القوة القاهرة مؤقتاً المدين من الوفاء بالتزاماته وتظل الرابطة العقدية قائمة وملزمة بالرغم من عدم تنفيذ المدين لالتزامه ثم يستأنف العقد سيره عند اختفاء المانع.”[3]
فوقف عقد العمل هو وقف تنفيذ الالتزامات الرئيسية المتبادلة التي يفرضها العقد على طرفيه عند حدوث قوة قاهرة تؤدى الى الاستحالة المؤقتة للتنفيذ.”[4]
ومن ثم يشترط أن يستحيل تنفيذ العقد من ناحية، وأن تكون هذه الاستحالة مؤقتة من ناحية أخرى. وهذان الشرطان متوافران في وباء كورونا، ومن ثم يترتب عليه وقف عقود العمل. فصدور قرارات من الدولة بتعليق العمل بالمنشآت الخاصة محافظة على العاملين من انتشار الوباء يترتب عليه استحالة تنفيذ صاحب العمل لالتزامه بتقديم العمل للعامل، وهذا الالتزام هو التزام بتحقيق نتيجة تتحقق مخالفته بمجرد عدم فتح أبواب المنشأة وتمكن العامل من العمل.
وهذا السبب مؤقت لأنه مرتبط بوقت انتشار العدوى بالكورونا وبالتالي سيعاد فتح الباب للعمل من جديد بمجرد انحسار حالات العدوى.
2- مدى استحقاق العامل لأجره بالرغم من عدم قيامه بالعمل في فترة انتشار الوباء:
الأصل أن استحقاق العامل للأجر رهين بأدائه الفعلي للعمل المكلف به تحت اشراف وتوجيه صاحب العمل، وذلك انعكاس للطبيعة التبادلية بين العمل والأجر في عقد العمل، إلا أن العامل يستحق أجره أيضاً إذا كان مستعداً للعمل وتعذر عليه أداؤه لسبب راجع إلى صاحب العمل، فالتزام رب العمل بتمكين العامل من العمل، هو التزام بتحقيق نتيجة، ومن ثم يمكن للعامل اثبات إخلال صاحب العمل بهذا الالتزام بإثبات أنه حضر إلى مكان العمل وأعلن استعداده لمباشرة عمله، لكن حالت دونه أسباب ترجع إلى صاحب العمل.
وقد نصت على ذلك المادة 44 من قانون العمل القطري بقولها: (يلتزم صاحب العمل بتمكين العامل من أداء العمل وتوفير جميع المستلزمات اللازمة لذلك، وإذا حضر العامل الى مكان العمل، وكان مستعداً لأداء العمل، إلا أنه لم يتمكن من ذلك، لأسباب لا دخل له فيها، اعتبر كأنه قد أدى العمل فعلاً واستحق المزايا المترتبة على ذلك).
وعلى ذلك، فإنه إذا ثبت أن الذي منع العامل من العمل سبب راجع إلى صاحب العمل، فإن العامل يستحق أجره عن جميع أيام التعطل عن العمل طالما كان مستعداً للعمل ولم يتمكن من ذلك لسبب يرجع إلى صاحب العمل سواء كان سبب المنع من العمل هو خطأ صاحب العمل عمدياً كان أو غير عمدي أو كان راجعاً إلى صاحب العمل دون ارتكاب أي خطأ من العامل، كما لو أغلق المنشأة لعدم وجود خامات أو لوجود عيب في الآلات المستخدمة. أما إذا كان المنع من العمل يرجع إلى خطأ العامل نفسه أو فعل الغير، فلا يستحق العامل أجره. ولكن هل يستحق العامل أجره إذا ثبت أن عدم تمكنه من العمل ناشئ عن أسباب قهرية لا ترجع لصاحب العمل أو العامل؟
القاعدة أنه يجوز الاتفاق بين الطرفين في عقد العمل على أن يتحمل صاحب العمل أجر العامل في حالات القوة القاهرة فإذا لم يوجد هذا الاتفاق، فإنه بحسب القواعد العامة لا يستحق الأجر، ولم يعالج قانون العمل القطري هذا الأمر، إلا أن المشرع المصري أورد حكماً خاصاً بهذا الفرض يحقق العدالة بين الطرفين وهو نص المادة 41/2 من قانون العمل بأنه: (“أما إذا حضر العامل وحالت بينه وبين مباشرة عمله أسباب قهرية خارجية عن إرادة صاحب العمل، استحق نصف أجره”). وهذا الحكم الذي أخذ به قانون العمل المصري هو حكم عادل إذ وزع آثار القوة القاهرة على عاتق طرفي العقد، فالقوة القاهرة أمر خارج عن إرادتي الطرفين، ومن ثم يستحق نصف الأجر فقط، ويتحمل العامل النصف الآخر، ما لم يوجد اتفاق على تحمل صاحب العمل الأجر كاملاً تنفيذاً لنص المادة 258 مدني قطري على أنه يجوز الاتفاق على أن يتحمل المدين تبعة القوة القاهرة والحادث الفجائي.
وفي اعتقادنا أن هذا الحكم يجب تطبيقه حتى ولو لم يوجد نص صريح بقانون العمل، حيث أنه يحقق العدالة بتوزيع آثار القوة القاهرة على طرفي علاقة العمل وهو ما ينطبق على حالة وباء الكورونا.
ثالثاً: إجبار العمال على استنفاذ رصيد إجازاتهم
كما أنه يجوز لصاحب العمل أثناء وجود حالة القوة القاهرة غلق المنشأة ومنح العمال إجازاتهم السنوية في فترة الغلق، طالما اقتضت مصلحة العمل ذلك. فصاحب العمل هو المنوط به تنظيم المنشأة وتحديد وقت القيام بالإجازة السنوية فيما عدا حالة تقدم العامل لأداء امتحان في إحدى مراحل التعليم، يكون للعامل تحديد موعد أجازته في هذه الحالة فقط. كما يمكن لصاحب العمل إجبار العمال على استنفاد رصيد اجازاتهم السنوية المجمدة أو المرحلة من سنوات سابقة.
أغلب قواعد قانون العمل قواعد حمائية تتضمن حداً أدنى من الحقوق للعامل، يجوز الاتفاق على زيادتها ويبطل الاتفاق على إنقاص أي حق من هذه الحقوق، وعقد العمل عقد ملزم للجانبين أي من العقود التبادلية فيه العمل مقابل أجر، والأجر مقابل العمل، وإذا كان العامل ملتزماً بأداء العمل المتفق عليه، فإن صاحب العمل ملتزم بتقديم العمل للعامل، وهذا الالتزام الأخير هو التزام بتحقيق نتيجة، ومن ثم إذا لم يتمكن العامل من القيام بالعمل لسبب راجع لصاحب العمل بالرغم من أنه كان مستعداً للقيام به، فإنه يستحق أجره عن كامل أيام التعطل، أما إذا كان سبب عدم قيام العامل بالعمل راجعاً إلى خطئه أو خطأ الغير فلا يستحق أجره.
وإذا كان سبب عدم قيام العامل بالعمل يرجع إلى حالة القوة القاهرة ولكنها حالة مؤقتة تزول بعد فترة تاريخ معلوم أو غير معلوم، فإن عقد العمل يقف ولا ينقضي، وفي حالة وجود القوة القاهرة والتي لا دخل للعامل أو صاحب العمل في حدوثها، فإن العامل يستحق نصف أجره بمعنى أنه آثار القوة القاهرة المؤقتة تتوزع على عاتق الطرفين. وكما أسلفنا، فقد نص على هذا الحكم قانون العمل المصري (م41/2)، ولا يوجد نص مقابل في معظم قوانين العمل المقارنة ومنها قانون العمل القطري. إلا أن هذا الحكم يحقق العدالة، ومن ثم نرى الأخذ به حتى في حالة عدم وجود نص.
وحتى تنطبق هذه القاعدة يشترط أن تكون حالة القوة القاهرة مؤقتة، وأن تؤدي إلى استحالة القيام بالعمل طوال مدة قيام هذه الحالة. أما إذا استمر العمل ولكن بتكلفة باهظة على صاحب العمل، فإنه يمكن تطبيق نظرية الظروف الطارئة إذا توافرت شروطها.
كذلك فإن توزيع اثار القوة القاهرة المؤقتة على الطرفين يترتب عليه عدم تحمل الدولة أجور العمال خلال فترة التوقف عن العمل أو تعويضها لأصحاب الاعمال.
فالقاعدة أن حماية العمال لا تمتد إلى فقد المشروع ذاته، وبالتالي انقضاء عقد العمل بل ظهرت فكرة وقف عقد العمل لتحقيق استقرار علاقات العمل.
ولما كانت جائحة الكورونا هي حالة لم يكن في الوسع توقعها، كما أنه يستحيل دفع آثارها حتى تزول هذه الحالة، فإنها يمكن اعتبارها ظرف طارئ إذا استمر العمل بتكلفة باهظة ويتم تخفيض الأجور، كما أنها تعد قوة قاهرة إذا توقف العامل تماماً عن العمل ومن ثم يستحق نصف أجره، كان ذلك بشرط عدم تعويض صاحب العمل بواسطة الدولة أو وجود اتفاق على تحمل المدين نتيجة القوة القاهرة.